سنة النشر :
2022
عدد الصفحات :
520
ردمك ISBN 9789948468066
تقييم الكتاب
رواية «المحصن» للكاتب الأيرلندي جون بانفيل، والتي صدرت طبعتها الأولى باللغة العربية عن دار روايات، من ترجمة السوري عهد صبيحة، تدمج بين السيرة الذاتية المتخيلة، والتأملات الفلسفية حول الهوية والخيانة، من خلال بطلها فيكتور ماسكل، وهو رجل مسن، مثقف، ومؤرخ فنون، كان جاسوساً سوفيتياً داخل الدوائر البريطانية العليا خلال الحرب الباردة.
صدرت الرواية لأول مرة بالإنجليزية عام 1997، وتقع نسختها العربية في 520 صفحة موزعة على ثلاثة فصول. تستند الرواية إلى شخصية مستوحاة من الواقع، هي شخصية أنتوني بلانت، العضو البارز في «حلقة كامبريدج»، مجموعة الجواسيس البريطانيين الذين نقلوا أسرار المملكة المتحدة إلى الاتحاد السوفييتي، قبل الحرب العالمية الثانية وأثنائها وبعدها.
تروى القصة من خلال ذكريات بطلها فيكتور ماسكل، وهو يواجه نهاية حياته، كاشفاً عن تناقضاته، وعن انتمائه المزدوج (بريطانيا والاتحاد السوفييتي)، وحياته المضطربة، والصراع بين حبه للفن وواقع الخيانة.
والرواية بهذا المعنى، تطرح العديد من الموضوعات، من بينها (الهشاشة أو الضعف الإنساني والخيانة)، فرغم كونه -أي ماسكل- رجلاً (محصناً) أو (لا يمكن المساس به) كما هو عنوان الرواية بالإنجليزية، يظهر ضعيفاً أمام شكوكه، وأمام خيباته وندمه.
الخيانة في الرواية ليست محض خيانة لوطن، بل تتشعب لتصبح خيانة للذات، خيانة للمُثل الفنية (ماسكَل يدرّس فن النهضة لكنه يلوث ممارسته بالجاسوسية)، خيانته للحقيقة حين يرتكن إلى كذبات يرويها لنفسه.
تتناول الرواية إًشكالية الهوية المزدوجة لشخصية ماسكل في مجتمع مغلق، واشكالية كونه جاسوساً في أحضان السلطة البريطانية بينما ولاؤه الحقيقي لعدوها اللدود في الجانب السوفييتي.
يبرع مؤلف الرواية الأيرلندي جون بانفيل في استخدام لغة شاعرية في عمله هذا، حيث ينجح في صياغة جمل مركبة وغنية بالاستعارات، خاصة في وصف الأعمال الفنية ومشاهد الماضي، كما أن الرواية فيها جانب من (التناص التاريخي) حيث تنسج خيوطاً مع أحداث حقيقية (مثل فضيحة جواسيس كامبريدج) وشخصيات مثل: غاي بورغيس وكيم فيلبي.
يكشف السرد الروائي في هذا العمل عن ما يشبه مونولوجات ماسكل، التي هي بمثابة اعترافات شخصية أمام القارئ مع مساحة للشك في صدقيته، الرواية بهذا الأسلوب تقارن بأعمال جون لوكاريه (هو الاسم المستعار للكاتب الأكثر مبيعاً ديفيد جون مور كورنويل (1931 - 2020) التي تركز أعماله على البيئات السياسية، والتجسس، من عصر الحرب الباردة. لكن بأسلوب بانفيل التأملي والفلسفي.
في هذا الإطار يمكن وصف مؤلف الرواية جون بانفيل بأنه يبرع في استخدام تقنيات سردية عدة في روايته، فهناك ( الزمن المتداخل): ذكريات ماسكل غير مرتبة زمنيا، كأنها شظايا مرآة مكسورة تعكس تشتت هويته، وهناك (الضمير المخاتل): ماسكل يخاطب القارئ مباشرة أحياناً، كقوله: «هل تصدقني الآن؟» ما يخلق شكاً في مصداقية روايته.
تحاول الرواية تحليل شخصية ماسكل الذي يعاني انفصاماً وجودياً، فهو يعيش كشبح بين عالمين، عالم الفن، حيث يقدس لوحات بوسان وفيرمير، ويعتبر الفن ملاذاً من فوضى الواقع، وهناك عالم الجاسوسية، حيث يمارس الخيانة، كفن آخر، لكنه فن قذر يذكره بزيفه أمام تناقضه الأكبر، و يبرز ذلك حين يقول: «أنا رجل يكره السرية، لكن حياتي كلها غابة من الأسرار».
بهذا المعنى، يواصل جون بانفيل روايته من خلال سرد ممتع، وتقنية الاسترجاع، وذلك لربط ماضي شخصياته بحاضرها، ولكي يرسم ملامح مستقبل هذه الشخصيات، وهو ينجح دائماً في اعتماده التكثيف المصبوغ بشعرية عالية، كما يدخل في عمق هذه الشخصيات محاولاً تحليل دوافعها الداخلية والخارجية.
هذه الشعرية السردية غالباً ما تأتي على شكل ومضات سريعة، وفيها قدر هائل من فرادة الوصف الذي قلما نجده في كثير من الروايات.
نقرأ في الرواية: «كان المنزل من الطراز الباروكي، ليس كبيراً، لكنه فخم إلى حد ما، وتعتني به السيدة (ب) بترف قذر: الكثير من الحرير المهترئ ومواد يفترض أنها ذات قيمة عظيمة، وتعبق في المكان رائحة خاصة ببخور محترق. السباكة كانت بدائية، وكان ثمة مرحاض مغلق تحت السقف حينما يجري ماؤه يحدث ضجيجاً مخنوقاً رهيباً، مثل حشرجة موت رجل عملاق، يمكن سماعها على الفور على نحو محرج في جميع أنحاء المنزل، إلا أن الضوء كان يعم الغرف، ودائما هناك زهور قصت للتو والجو يعبق بشيء ما مكبوت على نحو مخيف، كأنه، في أي لحظة، ستبدأ أكثر اللحظات إدهاشاً، كانت السيدة بريفورت امرأة ضخمة، لديها انحناءة متغطرسة وسريعة الاهتياج، ومولعة بالسهرات».
تشير الرواية إلى لوحة «انتصار بان» لبوسان، باعتبارها واحدة من اللوحات التي يعشقها فيكتور ماسكل، وتذكر اللوحة في الرواية عدة مرات كرمز للفوضى الملتبسة بالجمال، ماسكل يرى نفسه في هذه اللوحة، بأنه شخص يمثل التمرد على النظام، وثمة (الرقص) في اللوحة الذي يعكس فساد النخبة التي ينتمي إليها، وهناك الفنان يوهان فيرمير حيث ينجذب ماسكل إلى ما يشبه اللحظة المتجمدة في أعماله، ذلك لأنها «تجمد الزمن» بينما حياته هو أي ماسكل عبارة عن سلسلة من اللحظات التي لا يستطيع السيطرة عليها.
عندما يعترف ماسكل بأنه لم يكن جاسوساً من أجل مبدأ ما، بل من أجل الإثارة، ينهار كل البناء الأخلاقي الذي حاول تبرير حياته به، وهنا، يظهر الخواء الأيديولوجي فالشيوعية كانت مجرد قناع لهروبه من فراغه الوجودي، وهنا، ثمة سخرية مرة يضيء عليها جون بانفيل: (بالنسبة لماسكل حتى خيانته لوطنه كان أمراً عادياً بالنسبة إليه، كأنه مجرد خطأ لا أكثر).
أكثر ما يثير الإعجاب في شخصية البطل، هو خلو هذه الشخصية من أي انفعال، فهو لا يبدو في أي لحظة رجلاً مدفوعاً بالأيديولوجيا. الأمر أشبه بأن يكون جاسوساً للشيوعيين، وكأنه يمارس لعبة مثيرة، وخطرة بالنسبة له. وأن هذا التمويه يلبي حاجة عميقة في طبيعته. ونجح جون بانفيل، إلى حد بعيد في الكشف عن تناقضات شخصية بطله ماسكل، معرياً اضطراباته الذاتية، وكاشفاً عن عمق هويته، وما كان يعانيه من خوف مبطن إزاء مشاعره المتناقضة، تلك المشاعر التي دفعته إلى الهوس (هوس الفن) للتغطية على هذه الشخصية غير السوية.
https://www.alkhaleej.ae/2025-09-08/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AD%D8%B5%D9%86-%D9%84%D8%AC%D9%88%D9%86-%D8%A8%D8%A7%D9%86%D9%81%D9%8A%D9%84-%D8%AA%D8%A3%D9%85%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D8%B3%D8%B1%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%AD%D9%88%D9%84-%D9%87%D9%88%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86-6073131/%D9%8A%D9%88%D9%85%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D9%8A%D8%A9/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9
هل قرأت هذا الكتاب أو لديك سؤال عنه؟ أضف تعليقك أو سؤالك