سنة النشر :
2023
عدد الصفحات :
93
ردمك ISBN 9789948046714
تقييم الكتاب
تتحول الإشارات والرموز أحياناً إلى جزء من هوية الإنسان، ويصبح لأسماء الأشياء أكثر من معنى ودلالة، وفي كتاب اليوم «الأسماء» للشاعر البحريني-البريطاني طاهر عادل، والذي يأخذ فيه اللغة إلى اختبارات جديدة ربما لم يألفها القارئ من قبل، ينظر الشاعر إلى الأسماء على أنها بوابة حقيقية نحو ذاكرة الإنسان وأول خطوة في التعرف إلى ذاته وإلى المفاهيم من حوله.
صدر الكتاب عن «دار روايات» في الشارقة في عام 2023، ترجمة صفية الشحي، والتي اختارت لترجمتها كلمات عربية لا تخون دفء النص الإنجليزي الأصلي، لتستدرج بذلك القارئ العربي لعوالم شعرية تأملية تحاكي التجربة الإنسانية في قلقها وهوية حضورها، الكتاب جاء في 93 صفحة، مترجماً ومشبعاً بحس التأمل، ليترك أثره في القارئ من خلال بساطة النص وعمقه المتنامي، حيث يتقاطع السؤال الشعري مع سؤال المعنى والهوية.
يستعرض الكتاب أحد عشر مفهوماً-اسماً لها دلالات ومترادفات في اللغة مثل: أسماء الحب، أسماء القمر والريح..الخ تمثل في مجملها تجربة شعرية ثرية تدعو القارئ للتأمل في تفاصيل الأسماء وأسرارها، وتفتح أمامه مساحات واسعة للتفكير حول معنى الأشياء وكيف تتمثلها الأسماء وتحفظها الذاكرة عبر الزمن، وتفتح أمام القراء نافذة واسعة من المترادفات، بحيث تمنح للمفاهيم مكانة خاصة تعكس شخصياتنا وتجاربنا، فكل مفهوم يحمل في طياته قصة، وكل إشارة تشكل ملمحاً من ملامحنا، حتى يصبح المفهوم علامة تعبيرية عن وجودنا وطريقة لفهم أعماقنا.
يحتفي الشاعر طاهر عادل بالمفاهيم، ويمنحها بصياغته البسيطة والعميقة أهمية توازي أهمية الذاكرة ذاتها، إذ يعتبرها صدى للحياة وبوابة أولى للتواصل مع العالم والمجتمع وكل من يحيط بنا. في كل صفحة من صفحات هذا الكتاب، يشعر القارئ بقيمة اللغة حين تتجاوز شكلها المعتاد وتصبح وسيلة لاكتشاف الذات والآخر، وسط عالم يحتاج الإنسان فيه إلى أشياء ملموسة تذكره بمن يكون بالفعل.
اعتمد الشاعر على الشعر تحت كل مفهوم ليشكل بطاقة عبور بين ملامح الزمن، ويفكك المسافة بين الذات وذاكرتها من خلال تبجيل المفاهيم التي تمثل صدى الذاكرة الإنسانية وعتبتها الأولى على عتبات العالم.، في تجربة شعرية حديثة تتراوح بين القصيدة والخاطرة، وتعبر عن حقبة من الشعر المعاصر الرافض للحدود والقوالب، يكون المفهوم فيها هو أقصى ما يتبقى من الأشياء والأشخاص حين تخفت الذاكرة، وتتوتر تفاصيل الحكاية الإنسانية أمام عنف الوقت ومحو الأثر.
النصوص في الكتاب قصيرة، تتردد بين الهمس والتكثيف، حيث يغيب الوزن والإيقاع الشعري الكلاسيكي لصالح التركيز على الصورة والشحنة الشعورية، ينتقل الشاعر بين مقاطع ترتكز على تداعي الذكرى، ويستخدم مفاهيمه كمفاتيح لحكايات صغيرة، تجتمع فيها كل العناصر لتؤسس بنية خطاب شعري تأملي وجودي.
يعتمد طاهر عادل على لغة تتحرك باتجاهين متوازيين: الاختزال والجمال، فلا وجود لجمل زائدة أو تراكيب منهكة، بل تنتصر الكلمة المكثفة على كل زخرفة لغوية، وتصبح الإشارة في حد ذاتها وحياً دلالياً، تتكرر كلمات «الحب»، «الريح»، «الحياة»، لتبرز كلبنات أساسية في البناء النصي، وكأن الشاعر يشتغل على الدلالات أكثر من الألفاظ نفسها.
تبرز ترجمة صفية الشحي هذا التشذيب اللغوي، إذ تبتعد عن الزخرفة وتلجأ إلى كلمات عربية بسيطة وحارة تلتقط جو النص الأصلي دون تصنع أو افتعال، إن هذا التوازن بين الترجمة والمعنى الأصلي يضفي نوعاً من العذوبة والتلقائية على النص العربي، ويحفظ موسيقى القصيدة الداخلية رغم غياب الوزن العروضي.
يعتمد الشاعر في كثير من نصوصه على بناء صورة شعرية واحدة تتسع وتضيق بحسب الإحساس، حيث يكون لكل مفهوم قصته، ولكل كلمة أثرها في الذاكرة، تتولد صور الكتاب عبر تراكم الذكريات، واختزال التجربة الإنسانية في الاسم، كأن الذات لا تتعرف إلى العالم إلا من خلال أسمائه.
تظهر فنية الكتاب في ضمنية الصور، إذ يتجنب الشاعر التعبير المباشر ويراهن على الإيماء والدلالات، فتغدو القصيدة أحياناً مثل لوحة تجريدية يكمن معناها في وقوع نظر القارئ على تفاصيلها الصغيرة. يطبق عادل تقنية الحذف والإيحاء، فلا يخبر القارئ بكل شيء، بل يترك للفراغات والظلال سلطتها في بناء المعنى، ويتقاطع كتاب «الأسماء» مع تجارب شعرية عالمية، خاصة مع الشعراء الذين جعلوا من الذاكرة موضوعاً مركزياً، يوظف فيه الشاعر الرمزية في عرض أزمته الوجودية، فيشكل من الاسم رمزاً للكينونة، ويعيد اكتشاف عناصر الطبيعة من خلال دلالات أسمائها، فيستنبت الشاعر من الاسم عشبة الهوية، وكأن الأغنية ذاتها لا تخرج إلا من نواة اسم وحيد.
يوظف الكتاب «إيقاعاً داخلياً» ينبع من تكرار الكلمات ومن البناء التدريجي للعبارة، حيث تتلاحق الأصوات الخافتة وتتحرك من «الحضور» إلى «الغياب»، وتؤسس موسيقى تأملية تهز القارئ في أعماقه، تتسم الجمل بقصرها، ما يمنح النص سرعة الانسياب، ويؤسس لعلاقة مباشرة بين الفكرة والشعور.
تظهر الذات الشاعرة حاضرة في كل سطر، فهي ليست شخصية مركزية صاخبة، بل هي حضور يتوارى خلف الأسماء، ويطل من خلف ظلال الأشياء، ونلاحظ أن الاغتراب والحنين يتجليان في النص، حيث يحس القارئ بالروابط الخفية بين الشاعر وعالمه الخاص، وبين رغبة الشاعر في حفظ الاسم كأثر أخير على شاطئ الذاكرة الإنسانية.
يطرح الكتاب أسئلة فلسفية عبر التقنية الشعرية، فيبحث عن العلاقة بين الاسم والكينونة، بين إنسان ينسى العالم ويحفظ فقط أسماء أحبائه، مدنه، أغنياته، حتى يصير الاسم وثيقة وحيدة على حضور الذات والآخرين في الذاكرة.
لذا تبدو الأسماء في الكتاب بمثابة شواهد ضد النسيان، وتحول القصيدة إلى وثيقة وجودية لمقاومة التلاشي، لتنشط كلمات تعبر عن الفقد والحنين والذاكرة باستمرار في النص، وتلتقي جميعها عند مفترق الإشارة الأساسية: هل يبقى لنا سوى الاسم بعد كل تمدد للزمن وكل انطفاء لخلايا الذاكرة؟ في هذا السؤال يتجلى الحس الفلسفي بالأساس، وتضيق القصيدة على معنى وحيد «الاسم هو جوهر الأشياء».
يجد القارئ لهذا الكتاب بساطة اللغة وعمق الفكرة، وقدرة الكاتب على تحويل الأسماء إلى أغنيات للذاكرة، وحكايات صغيرة تشبه وجع الإنسان المعاصر في بحثه الدائم عن هوية وسط عواصف العزلة والاغتراب تاركاً أثراً قوياً لدى محبي الشعر الحديث، يقرب فن القصيدة لكل باحث عن معنى الحضور، ليمحى فيه الأثر إلا من إشارات صغيرة تحيل إلى اسم باق شاهد على كل ما كان.
يمثل كتاب «الأسماء» لطاهر عادل تجربة شعرية وفلسفية متميزة في المكتبة العربية المترجمة يستحق التأمل، باعتبارها وثيقة جمالية وجودية أبدعها الشاعر، لترسم للذاكرة نافذة جديدة عبر السؤال الشعري، هل يبقى شيء غير الاسم حين يختفي كل شيء؟
https://www.alkhaleej.ae/2025-08-10/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B3%D9%85%D8%A7%D8%A1-%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%B4%D9%88%D8%A7%D8%B7%D8%A6-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D8%A7%D9%83%D8%B1%D8%A9-6034881/%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%A1%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D9%83%D8%AA%D8%A8/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9
هل قرأت هذا الكتاب أو لديك سؤال عنه؟ أضف تعليقك أو سؤالك