سنة النشر :
2010
عدد الصفحات :
136
ردمك ISBN 9948047311
تقييم الكتاب
صورة الرجل في الرواية الإماراتية
قـراءة فـي رواية «أجراس» لزينب اليـاسي
د. رسول محمد رسول
ظلَّت صورة المرأة في المتخيَّل الروائي الخليجي، ومنه الإماراتي، تستأثر باهتمام النقاد القرائية، وكان لنا في هذا المضمار مساهمة(1)، ولكن مازالت صورة الرجل في المتخيَّل ذاته مغيَّبة عن الدرس القرائي النُّقدي بعض الشيء. في هذه الدراسة سنبادر إلى قراءة صورة الرجل في رواية (أجراس)(2) للكاتبة الإماراتية زينب الياسي.
قرأت في نهاية عام 2010 رواية للكاتبة الإماراتية زينب الياسي (أجراس)، وفي الوقت ذاته سنحت لي الفرصة لقراءة كتابها النقدي (البناء الفني في الرواية الكويتية المعاصرة)(3) الذي هو أصلاً أطروحة جامعية لنيل درجة الماجستير في الأدب الخليجي المعاصر.
ولو نظرنا في جسد نص رواية (أجراس)، لرأيناه يتألف من ثمانية فصول جاءت تحت تسمية «أجراس»؛ جرس أول، جرس ثان، جرس ثالث...، وهكذا حتى الجرس الثامن. ونجد في تكرار كلمة «أجراس» دلالة تتسع وظائفها من العنوان الرئيس لهذا العمل الإبداعي صوب العناوين الفرعية لفصول تدرُّج الخط الزمني أو السَّردي للحكاية في الرواية.
تبعث فينا زينب ـ نحن قراء عملها هذا ـ بعض الارتياح عندما تلجأ إلى راو يسرد بضمير الأنا أو بضمير المتكلِّم بوضوح ساطع أو بما يسميه دانون بوالو الراوي العلني أو الصريح Narrateur explicite (4) أو لنقل راو/ راوية يسردون بضمير المتكلِّم أو بضمير الأنا وهم: أماني، وسالم، ونورة، وعارف. كل هؤلاء يضعوننا عند أعتاب ما يروون سرداً ليوميات أنواتهم المتواصلة أسرياً ومجتمعياً. وهناك فاعلون آخرون يشاركون في أحداث الرواية، لكنهم لا يمارسون فعل السرد أو الروي إنما هم مسرودون.
أماني، سيدة متزوجة بإماراتي يعمل في المجال العسكري، وتعيش بمدينة دبي في فضاءي زمان ومكان العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين برفقة زوجها سالم وأولادها: سعيد، ونورة، وحمد. أماني الفاعلة المشاركة في أحداث الرواية، والراوية المشاركة في أحداثها، ما جعل من منسوب المتخيَّل الروائي فيها متدفقاً بعذوبة حرَّة؛ فكل الشَّخصيات والأحداث في الرواية هي كائنات متخيَّلة لكنها خاضعة لتسريبات الواقع المنظور الذي أحالها إرادة السَّرد إلى واقع متخيَّل له هويته الخاصة به.
ثمَّة عتبتان تسبقان متن الحكاية في الرواية؛ الأولى مجرَّد إهداء إلى أسرة الكاتبة، وهي عتبة منفصلة عن متن الحكاية، أما الثانية فذات صلة وثيقة بالمتن، ذلك أن الناصَّة Textor أو زينب الياسي نفسها تستعين بمقولة صدح بها يوماً فيكتور هيجو الذي قال يوماً: «الحرية هي الحياة، ولكن لا حرية بلا فضيلة».
وهكذا تضعنا زينب الياسي، بوصفها المؤلِّفة والناصَّة، عند تخوم مسألة الحرية، وتحديداً حرية المرأة إزاء علاقتها بالرجل، وهو ما يؤشِّره لنا «الجرس الأول» في المتن الحكائي، وذلك عندما تكشف أماني عن عوالم الصراع مع ذكورية تتحكَّم بالمؤسسة الزوجية؛ فسالم، زوج أماني، هو الطرف الثاني، وهو الطرف الرئيس، في وتيرة الصراع مع زوجته أماني، ما يعني أننا بإزاء أنوثة ساردة لشخصية ذكورية ستشارك، فما هي صورة هذا الرجل/ الزوج في رواية (أجراس)؟
تبدأ حكاية الرواية بخروج أماني وحدها مسرعة من منزلها بسيارتها، وفي أثناء ذلك تبدأ عملية تسريد مسارات الأحداث لتأتي كاشفة عن علاقتها بزوجها سالم في سياق حوار داخلي تستعيد فيه أحداثاً وقعت لها مع زوجها، وخلال ذلك تظهر ملامح صراعها معه، وأول ما تؤشِّر في ذلك «حالة النسيان» التي تسم شخصيته: «النسيان آفته؛ ينسى مواعيد العيادة، اجتماع أولياء الأمور في مدرسة أبنائنا، ينسى تجديد جوازاتنا؛ أجده في دوامة الأمور المركونة أو المنسيَّة..» (ص 9).
قد يكون هذا المقطع وصفياً، لكننا نجد أماني تخبرنا عن حالتها وهي تحاول أن تعالج أزمة النسيان لدى زوجها فتقول: «لقد سلكتُ جميع الطرق في سنواتي العشر معه من أجل تفادي هذه الآفة.. في أحد الأيام جلستُ معه، حاورته في موضوع نسيانه، طلبتُ منه أن يجد حلاً، فردّ: أنت تضخِّمين المواضيع أكثر من اللازم!» (ص 10).
من خلال تسريد مدار النسيان Topic of oblivion الذي بات «يقرض حياة الأسرة قرضاً» (ص 10)، أخذت العلاقة الصراعية بين الطرفين تكشف عن صيرورتها، فصار سالم، وكما تقول أماني: «يظنُّ بي ظن السوء؛ صُدمت به؛ بشكوكه، بهواجسه، شعرتُ بطعنة موجَّهة إلى أخلاقي ومُثلي، يستحيل بعدها الإبقاء على عرى الزواج بيننا» (ص 11)، لكنها الراوية سرعان ما تضعنا عند تجربتي صراع ذكوري/ أنثوي؛ الأولى تجربة «عواطف» المرأة العانس التي ترفض الارتباط برجل زوجاً كان أم صديقاً أو حبيباً، حيث تقول: «المرأة يكفيها سجن أنوثتها، فلا داعي لأن ترتبط بمن يسجنها» (أجراس ص 12). أما الثانية: فتجربة نساء عدَّة عانين من تسلُّط الرجال، مرَّت ذكراهن على مسمعها في أيام خلت (انظر ص 14). لتعود إلى الكشف عن سمات الأنا الذكورية؛ ذكورية زوجها سالم، وكل ذلك في إطار حوارها الداخلي مع نفسها وهي تحت مسطرة قيادة سيارتها بدبي؛ إذ تكشف عن سمة أخرى من سمات زوجها، وهي أنه «يأنف» أن تأخذ المرأة مكان الرجل حتى في عملية قيادة المركبة، فمرة اقترحت عليه أن تقودها لكنه رفض، وقال: «ارتاحي ما دمتُ موجوداً» (ص 15). إلا أنها قالت: «لا أظنه يقصد راحتي، ولكنه يأنف من جلوسه بجانبي وأنا أقود السيارة» (ص 15). ولم تكتف أماني بذلك فقط، إنما استعانت برأي زميلاتها في العمل المصرفي، اللائي يقلن دائماً: «إنَّ الرجل لا يحتمل أن يرى المرأة تأخذ مكانه» (ص 15).
جاء الصراع الأنثوي مع ذكورة زوجها عبر مسطرة صراع أماني مع ثلاثة عناصر هي الزوج، ووالدة أماني (انظر: ص 18). والجنية أو ما تسميه الراوية «جنيتي» (ص 15 )، وهو الأنا الداخلية أو أنا ـ الأنا أو العقل الباطن الذي حضر على نحو مكثَّف في علاقة أماني بكل الفاعلين في أحداث الرواية، بل يحضر تكراراً حتى بينها وذاتها في الكثير من المواقف، رغم أنها تحاول أن تطرده من حضوره المُتعِب (ص 17).
إلى سمة أخرى تضطلع بها شخصية زوجها تلك هي سمة «الهيمنة الذكورية» على مفاصل حياة الزوجة، و«شطب أفكارها»، وتمييع مهاراتها وهواياتها الشَّخصية التي كانت تمارسها منذ أيام الدراسة. فقد كانت أماني تعشق فن الرسم، وتمارسه عندما كانت في بيت والديها، لكنها ما إنْ دخلت عش الزوجية حتى استحالت مواهبها إلى رميم منثور، تقول أماني استذكاراً: «كلّما حاولت أن أضع بصماتي في سكننا، يشطب أفكاري، أقول له: سأرسم على الجدران، يقول لي: سآتي بفنان في الرسم ليبدع لك ما تشائين وأنت ارتاحي. بهدوء بارد يجيبني..» (ص 17).
وبالفعل جاء سالم بفنان، ورسم لوحة في المنزل، لكنها لم تك ترضي ذائقة ولا إرادة أماني، رغم أنها أبدت بعض الرضا الشكلي عنها أمام الفنان، لكننا نراها تخاطب نفسها كاشفة عن عدم قناعتها، وعن تقاطعها مع فلسفة إرادة المرأة/ الأنثى فيما تطمح: «لا يستطيع أن يُدرك أن عالم المرأة كلّما تشكَّل وفق رؤاها شعرت بالسَّعادة تتملَّك جوانحها، ونشرت هذه السَّعادة في أرجاء منزلها» (ص 21)، وهو أمر تفتقده أماني بسبب الهيمنة الذكورية الشاطبة لفهم المرأة فلسفة ما تُقبل عليه. وهذا يعني أن أنموذج البديل الذكوري الذي اقترحه وطبقه الزوج هو بديل أعمى لا ينظر إلى مكنونات الذات الأنثوية فيما تُطالب به من منظور أماني.
وفي سياق هيمنة النمط الذكوري الشرقي أدى خبر حمل أماني بأنثى، الخبر الذي زفته لزوجها، إلى عدم سعادته لأن المحمول أنثى (ص 22)، في حين كان السرور حالاً على روحه عندما أخبرته يوماً أنها حامل بجنين ذكر، وهذه صفة معروفة لدى الذكورة الشرقية، بل وموروثة من أقدم الأزمان، إنها ثقافة الفحولة العربية التي تكشف عنها الراوية عندما تلاحظ على سالم أنه يُلاعب ولده (سعيد) كثيراً في المنزل، ويقول لها: «أريده رجلاً شجاعاً» (ص 23). وإلى جانب ذلك يستمر السَّرد في الكشف عن سمات وصفات ذكورية الرجل الذي كان يريد منها أن تكون له وحده «ستجدينني معك كالبحر» (ص 28)، و«أشعر بأنه متفرغ، يريدني معه على الدوام» (ص 27)، ولكنها تفتقد المشاعر الرومانسية في الحياة معه «أما الرومانسيات فلا مكان لها» (ص 24)، حتى قالت عنه يوماً: «إنه صخرة صوّان لا يدرك شيئاً عن المشاعر» (ص 25)، بينما سيقول لها في نهاية الرواية: «تحتاجين إلى رومانسية وأنت باردة!» (ص 130).
وفي يوم ما اقترح عليها أن تجد وظيفة، لكنه اشترط عليها أن تعمل في «أي مكان لا يوجد فيه ازدحام رجالي» (ص 26). وهنا بدأت دوامة شعورها بأنه يشك بها: «نظرته المتهمة، وشكه المقيت استفزاني» (ص 30)، لتخرج من حياته، ويبدأ راو آخر في «الجرس الثاني» وهو زوجها «سالم» الذي طعنه خروج زوجته من حياته، وكانت الطعنة مضاعفة عندما بدأت رسائل وصور إلكترونية ترد إليه عن علاقات زوجته برجال آخرين حتى أخذ يقول عنها: «لقد خرجت.. خرجت بإثمها»، و«اكتشفت فيها أوسخ النساء الساقطات» (ص 37)، وهي «امرأة لم تصن نفسها لي» (ص 38)، و«أهدرتُ عشر سنوات من عمري مع امرأة غشتني في نفسها» (ص 47)، كما أن «المسجات الأخيرة التي وصلتني تخبر عن علاقة أماني المشبوهة؛ صور بالوسائط المتعدِّدة تؤكِّد ذهابها لمطاعم وشقق في أوقات مختلفة» (ص 43)، و«صورة أخرى لسيارتها أمام عمارة مشبوهة، صورها على الإنترنيت»(5). سالم، الزوج المغدور به، يغرق في دوامة ما حصل له ليختم متسائلاً محدِّثاً نفسه: «الأبناء هم الحلقة الأقوى في سلسلة الزواج، أمامهم يضعف كل عزم، آآآآآه.. كم من الصعب عليَّ اتخاذ قرار؟» (ص 57).
إنها صورة الرجل الإماراتي المصدوم بترك زوجته له وأولاده، ومصدوم أيضاً بما اطلع عليه من تصرفات زوجته أماني، لا بل صورة الرجل المهان في مجتمع التواصل الاجتماعي الذي يعيش فيه، وهو الرجل العسكري الذي صار مفضوحاً في المجتمع ذاته كما يعتقد.
في «الجرس الثالث» تترك الناصَّة عملية الروي إلى العين الثالثة، العين التي ترى ما يجري بين الزوج وزوجته، أماني وسالم، والعين الثالثة هي «نورة» ابنتهما الوحيدة التي كانت تطل على مجلس ضمَّ والديها وكلاهما متوتر الحال؛ فالأب يريد من زوجته أن تعود إلى منزل الزوجية، بينما الأخيرة ترفض.
في هذا الجرس، تكشف نورة عن أخلاق والدها الحسنة، وكذلك طيبته مقابل توتر والدتها وتبرّمها من العيش برفقة الأب والأسرة. ليس هذا فحسب، بل يكشف هذا الجرس أيضاً عن رغبة الأب في استعادة زوجته إلى حياته وأطفاله، وهو مؤشر حكمة ذكورية، لأنه يشعر بمسؤولية الخراب في ظل وجود أطفال.
وإذا كنا قد تعرَّفنا في الجرسين الأول والرابع إلى تبريرات عزوفها ونفورها عن العيش مع سالم، وقدَّمت في ذلك، وعبرَ وحدات قرائية عدة، جُملة من التصرفات الذكورية التي يتعامل بها زوجها معها، فإن سالم، وفي «الجرس السادس» راح، وهو الراوي هنا، يقدِّم تبريرات تصرفاته معها، التصرفات التي يراها تنم عن ذكورية إنسانية حريصة على ترسيخ قيم الأبوة الرحيمة، وقيم الزوج الحريص على أسرته، خصوصاً زوجته التي يريد لها أن ترتاح، بل يريد لها أن تشعر بحنانه وإنسانيته وحبه وإخلاصه لها، ولكن على وفق نمط ذكوريته التي تشبعت بأخلاقيات والده التي ورثها عنه، وهي أخلاقيات ترعى المصالح العليا للأسرة(6).
وبدلاً من أن يكيل العنف الجسدي لزوجته، راح، في هذا الجرس، يتأمَّل في المشكلة، بل بدأ أكثر اقتراباً من المعالجة العلمية في التفكير بها، يتساءل قائلاً: «ما هي أسباب مشكلتي؟ ومن الجاني في حق الآخر؟ ومن المجني عليه؟ أظن أن أبنائي هم من سأجني عليهم بقراري» (ص 97). ولذلك يحصر سالم ما لاحظه على زوجته قائلاً: «في الآونة الأخيرة، شعرتُ بابتعادها عني، تُكثر الخروج، تألف الصمت، ترفض مرافقتي لأية نزهة ولو عابرة» (ص 98).
إنَّ تفكيراً بهذه الطريقة العلمية في المشكلة ليمثل خاصَّة ذكورية تريد الناصَّة تأصيلها في خطاب الذكورة المسرودة بالرواية، خاصيَّة تتمتع بها شخصية الرجل/ الزوج الإماراتي العقلاني والحريص على بناء أسرة من دون أن يفرِّط بها: «كثيرة هي الأوقات التي أظن فيها أنني قد تزوجتُ نصف رجل، لسانها اللاذع يطفئ جذوة الكلام عندي، وآنف عليها كي لا يشتعل فتيل شجار لا طائل منه سوى توتير أجواء المنزل لنا وللأطفال» (ص 98). و«آثرتُ السكوت حفاظاً على سلامنا الأسري، وهدوء أطفالي» (ص 101).
يكشف سالم، كما لو كان يردُّ على اتهامات زوجته المسرودة في الجرسين الأول والرابع، يكشف عن نواياه المسؤولة في سلوكياته التي أبداها بإزاء أماني:
ـ «تعجب من عودتي بعد أي اختلاف إلى سابق عهدي؛ هي لا تدرس أنني أريد المحافظة على بيتي» (ص 98).
ـ «تتضايق حينما أسوق السيارة عوضاً عنها؛ تظنني آنف منها على الرغم من أنني بتصرفي أريد أن أشعرها بحبي واحتوائي لها» (ص 99).
ـ «تتضايق من غيرتي عليها، وكنتُ أظن أن المرأة تفرح بغيرة زوجها» (ص 99).
ـ «أنا لا أريد السيطرة عليها، ولكنني أريدها أن تحترم وضعها كزوجة وأم» (ص 100).
ـ «هي لا تحتمل الاختلاف والاعتراف بالخطأ» (ص 101).
ـ «فضّلتُ الصمت تجنباً لانفعالها.. أصمت كي أتجاوز المشاكل، أو بالأحرى أتجاوز صراخها وانفعالها بالصمت؛ أنا بطبعي لا أحب الصراخ، أظنها لا تدري أنني آنف حل قضايانا بالصراخ، وكأننا في حلبة صراع ديكة» (ص 101).
في هذا الجرس أيضاً يكشف سالم عن هموم الحياة في دبي، الحياة التي صارت ثقيلة على أي رب أسرة، خصوصاً وأنه رجل يعمل في المجال العسكري، ويواجه الديون، والخسائر الكبيرة في سوق الأسهم، ويواجه محنة إزالة بيته لبناء مجمع عمراني في المكان لكأني بالناصَّة تريد أن تضعنا عند حجم ما يعانيه سالم من مشكلات أسرية ومجتمعية واقتصادية. لكنه، وفي نهاية هذا الجرس، وبعد أن تلقّى اتصالات عدَّة من أماني التي طلبته وكأنها تعاني من مشكلة «أريد أن أتحدث معك.. أحتاج إليك» (ص 109)، يلجأ سالم إلى «المسجد»، يتضرَّع إلى الخالق سبحانه وتعالى في أثناء الصلاة، ويطلب منه المساعدة. وهذه خاصة أخرى للذكورة المحاصرة بمشاكل تتطلَّب لحلها طاقة أكبر من طاقة الإنسان العادية.
تستعين زينب الياسي كناصَّة بفاعلين أو شخوص عديدين أو بـ «مرايا» للكشف عن شخصية سالم؛ ففي الجرس الثاني استعانت بسالم نفسه ليكشف عن خبايا شخصيته، ومواقفه من زوجته. وفي الجرس الثالث استعانت بالابنة «نورة» للكشف عن بعض من ملامح شخصية والدتها ووالدها. أما في «الجرس السادس» فقد استعانت بـ «عارف»، صديق زوجها سالم، للكشف عن سمات شخصية الزوج منذ أن كان أعزب. على أننا لا نفهم من مفهوم «الاستعانة» هنا أن أماني هي التي استعانت بعارف، فالصلة بينهما لا أساس لها، إنما نعني زينب الياسي كونها الناصَّة في هذا العمل الروائي.
لقد طلب سالم من عارف أن يكشف له عن هوية صاحبة الرقم (رجل) الذي يرسل صوراً ورسائل فيها معلومات رقمية ومرئية عن زوجته أماني، عارف الذي قبل العرض، راح يشك في سالم بأنه، ربما، تغير وراح يعشق النساء خارج عش الزوجية، لكن عارفاً ما عرف جوهر الموضوع، ومن خلال الشك دلق مجموعة من سمات شخصية سالم وهو صديق الطفولة الذي رافقه سنوات طويلة (ص 15). فسالم «لا يعلِّق إلا بالنزر القليل»، و«سلوكياته الهادئة، صمته..»، وثم كيف «لامرأته أن تعيش في ظلماته»، و«أعصابه الباردة استغربها، وصمته يوحي بشيء من الرتابة في حياته، ولا أظن امرأة تستطيع تحمل سكونه»، و«سالم وغموضه الذي لا يمكنني سبر أغواره»(7).
قد تبدو هذه السمات سلبية الطابع من منظور عارف، إلا أنها تبقى سمات شخصية شاب إماراتي قبل الزواج، وزوج إماراتي بعده تعبِّر عن نمط شخصية قويمة ومستقيمة؛ فسالم آثر الزواج استكمالاً لسنَّة الحياة، وهو الذي يدخن كثراً لا يشرب الخمر، ولا يعاشر النساء خارج حجر زوجته، وهو يفضل أسرته على كل مرافق اللهو المتاحة في دبي، فضلاً عن كونه الرجل المتديّن الذي ما إن شعر بالعجز وضيق الحيلة في إيجاد حلٍّ لمحنته مع أماني حتى راح يتضرَّع إلى الله بحثاً عن الخلاص.
في «الجرس السابع» كنا نتوقَّع حسماً تراجيدياً لحكاية الأزمة بين الزوجين، لكننا، بدلاً من ذلك، وجدنا حسماً هادئاً حرصت زينب الياسي على جعله مفتوحاً أمام القارئ لكي يستنتج الحل أو الحسم استناداً إلى ما تضمُّه بعض الوحدات القرائية في هذا الجرس، ذلك أن أماني التي كانت تتجول بسيارتها في شوارع دبي، تعود مرة إلى الماضي لتستعيد بعض ما جرى من علاقات بينها وأفراد أسرتها، ومرَّة تعود إلى اللحظة التي تقود بها السيارة، والتي ستصل بها إلى أحد المساجد في دبي لتدخل إلى الصلاة، وما إن تنتهي من شعائرها حتى تجد رسالة من سالم يقول فيها: «يشهد الله كم أحبكِ» (ص 134)، لتنتهي الرواية بالإحالة إلى «الجرس الثامن» الذي جاء رمزياً في بياض صفحته، لكنه يبقى دالاً على بداية إيجابية في حياة الزوجين والأسرة؛ فلقد وردت كلمة واحدة في هذا الجرس تلك هي كلمة «البداية». إن البياض المتروك يمثل نصاً آخر آثرت زينب الياسي رمينا به لنبحر معه في أمواج التأويل والقراءة الحرة. كان «صمت» سالم نصاً محيلاً إلى خطاب شخصيته الرزينة، ويبدو لي أن البياض الذي تركته الناصَّة كان محيلاً أيضاً إلى خطاب ما لم تنفرط الكتابة وملئ البياض بقوله(8).
قدمت زينب الياسي في روايتها (أجراس) صورة للرجل الإماراتي الإيجابي مهما سعت أماني إلى تشويه صورته في مخيالها، بل ومهما سعى عارف إلى التشكك في شخصية سالم أو انغلاقه وسكونه وصمته. إنَّ إيجابية شخصية سالم تتضح أكثر مقارنة بشخصية عارف السلبية، الشَّخصية التي لعبت طيشاً على أيام عزوبية عارف، في حين كان سالم عابثاً في المرحلة نفسها. كما أن شخصية سالم هي شخصية ناضجة مقارنة بشخصية زوجته الطائشة التي رمت نفسها في مأزق العلاقة المتوترة مع زوجها لرغبات ضحلة كان بالإمكان التوافق عليها مع زوجها لو قرأت التحديات الاقتصادية والمهنية والحضارية الضاغطة التي تحيط بزوجها. وإن ما غفلت عنه أماني هو مؤثرات الحياة المهنية التي يدور سالم في فلكها، وكان من المفروض أن تخلق له الأجواء الرومانسية لتحتوي خشونة الحياة العسكرية. والأهم من ذلك أن سالماً لم يخنها مع غيرها، سواء عندما كانا معاً أو عندما تركت بيت الزوجية. لذلك يمكن اعتبار شخصية سالم أنها شخصية ذات كياسة لم تنفرط شطر الرعونة، لا رعونة التسرُّع بالطلاق، ولا رعونة اتخاذ موقف بالزواج بامرأة أخرى غيرها. لقد أبدى سالم فحولة ذكورية حريصة على بقاء نبض الأسرة قائم الحركة بحرية. بينما رسمت زينب الياسي، ومن خلال شخصية أماني، أنوثة عابثة يحدوها الطيش عندما كانت معجبة بأفكار «عواطف»(9) التي كانت فلسفتها تقوم على القناعة الآتية: «المرأة يكفيها سجن أنوثتها فلا داعي لأن ترتبط بمن يسجنها أكثر!» (ص 12). كما أنها أنوثة حبلى بالرعونة عندما راحت تكيل الكره لزوجها لمطالب أنثوية بسيطة لم تفهم فحوى رفضه لتحقيقها، لأنها أصلاً لم تفهم مسطرة الذكورة الجادَّة التي جُبلت عليها شخصية زوجها سالم الذي لم يكن متسلِّطاً، ولا قامعاً، بقدر ما كان حليماً بهدوئه، وصمته، ونظافة عشرته، وصيانة سمعته من كل عارض سوء. ولعل براعة السَّرد في هذه الرواية أنها جعلت من الفاعلين أو الممثلين المشاركين في أحداثها مرايا Mirrors كلّ يرى صورة الآخر فيها، مرايا تكشف عن علامات الشَّخصية وسماتها وصفات هويتها.
http://www.arrafid.ae/arrafid/p14_11-2012.html
هل قرأت هذا الكتاب أو لديك سؤال عنه؟ أضف تعليقك أو سؤالك